د. رضوى عبد اللطيف
مديرة التخطيط الاستراتيجي والإعلام ، مؤسسة صحافة الذكاء الاصطناعي للبحث والاستشراف
يخاف الإنسان ما يجهل، ويقاوم التغيير حتى يوقن أن كل شئ من حوله قد تغير وعليه أن يتكيف مع الواقع الجديد مثلما كان يفعل منذ النشأة الأولى مع البيئات المتغيرة من حوله. يتغير الإنسان مرغما لأن عليه أن يتكيف ليعيش أرى هذه المخاوف وتلك المقاومة مع معشر الزملاء الصحفيين عند الحديث عن صحافة الذكاء الاصطناعي.
الصحافة الرقمية
إذا عدنا لتاريخ الصحافة الرقمية[1]، فيمكن القول أنها ظهرت في العالم للمرة الأولى عام 1970 في بريطانيا، بدءً من ظهور خدمة تلي تيكست (Teletext )
. وهو النظام الذي كان يسمح للجمهور باختيار ما يريدون قراءته ومشاهدته
ثم كان للصحفي الأمريكي هانتر إس تومسون الفضل في استخدام الفاكس في العمل الصحفي، عام 1971 أثناء الانتخابات الأمريكية. وبعد اختراع التلي تيكست أصبح هناك فيدوتيكس (Vidotex)
وكلاهما أدى لظهور نظام بريستل في بريطانيا عام 1979، واستخدمته صحيفة فاينينشيال تايمز لنشر قصصها أونلاين[1]
.وفي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات ، بدأت العديد من الصحف الصغيرة في تقديم خدمات إخبارية عبر الإنترنت باستخدام برامج وأجهزة مودم الهاتف وكانت أولى هذه
الصحف الصحيفة الأمريكية Albuquerque Tribune
وتوالى انتشار مواقع الصحف الإلكترونية في التسعينات. وظهرت محركات البحث على الإنترنت التي بدأت تخصص أقساما للأخبار مثل ياهو. واعتمدت وكالة الأخبار العالمية الأسوشيتد برس على تقديم خدماتها الرقمية. وبحلول عام 2000 أصبح كل الصحفيين الأجانب يستخدمون الإنترنت في عملهم بصفة يومية ، بينما كانت المرة الأولى التي أشار فيها القراء أنهم يفضلون النسخ الإلكترونية عن الصحف التقليدية المطبوعة عام 2008- وفقا لتقرير مركز بايو لاستطلاعات الرأي.[2]
وأعطت الصحافة الرقمية مميزات للقراء للمرة الأولى، فأصبحوا قادرين على التفاعل والتواصل والمناقشة، وأيضا إختيار دوائر الثقة التي يتلقون منها المحتوى. وأعطت للقراء المتخصصين ميزة تبادل الخبرات مع الآخرين . وعلى المستوى المهني أتاحت الصحافة الرقمية للصحفي مجموعة من الأدوات الجديدة ليتمكن من رواية القصة عبر عدة وسائط جذابة مثل التدوين الصوتي والفيديو والتصوير الرقمي.
وكعادة العمل الإعلامي على مر السنوات ، من يستشرف المستقبل ويدرك حتمية التغيير مبكرا هو الفائز. هذا ما فعلته صحيفة The Times-Picayune ، أقدم وأكبر صحيفة يومية في نيو أورلينز في عام 2012 ، حيث تبنت استراتيجية التحول لتصبح “رقمية أولاً”. وكان هذا يعني إعادة هيكلة غرفة الأخبار، وتغيير سير العمل، والتفكير في كيفية سرد القصص مباشرة على Facebook. بالتعاون مع ـشركة NOLA.com ، المؤسس الرقمي للصحيفة في نسختها الجديدة. واستطاعت أن تنتج ما يقرب من 36 قصة إخبارية يومية على الفيس بوك.[4]
من الإنكار إلى الرقمية أولا
ويمكن القول أنه ظهرت أربع استراتيجيات انتهجتها المؤسسات الصحفية نحو الرقمية، تبدأ من إنكار الرقمية لعدم وجود تخطيط استراتيجي داخل المؤسسات يتابع التطورات التكنولوجية المتسارعة ويستشرف المستقبل، بجانب عدم توفر الإمكانيات المادية والبشرية . وخلاصة الأمر كان العالم يتطور بخطى واسعة وتوقفت الصحافة عن النمو. أي اختار هؤلاء أن لا يكون هناك صحافة. فالإدارة والصحفيون عالقون في غياهب بئر زمني، غارقون في مشاكلهم القديمة والمعتادة ويفعلون ما تعودوا على فعله منذ عقود ، وهؤلاء يعيشون ” False Comfort Zone”في منطقة راحة زائفة أو ما يسمى
الاستراتيجية الثانية التي انتهجتها المؤسسات الإعلامية هي الرقمية الموازية وتعني أن هناك مؤسسات أدركت أهمية الرقمية ولكن لم تفعل شيئا لتطبيقها، فاختارت أن تقدم نفس منتجها القديم أو طلبت من أحد صحفيها أن ينشيء موقع ويضع عليه فيديو من مواد قديمة أو حديثة مصورة بطرقهم القديمة دون الاستفادة من الإمكانيات التي تتيحها الثورة الرقمية من التفاعل مع الجمهور والمواد التفاعلية الجذابة
الاستراتيجية الثالثة هي الرقمية المحسنة ، وهنا اهتمت المؤسسة بتدريب صحفيين في غرف الأخبار لديها لتقديم المواد المناسبة للمنصات الرقمية، وخدمات البث المباشر والخرائط التفاعلية، والتعليقات، وإشراك الجمهور، ودراسة التعليقات، والتفاعل
الاستراتيجة الرابعة الرقمية أولا وهي المؤسسات التي اختارت أن تبني استراتيجيتها على الرقمية منذ تأسيس غرفة الأخبار، وطريقة تقسيم العمل ووجود صحفيين ورؤساء تحرير مدربين للتعامل مع التقنيات الرقمية، واختيار المنصات المناسبة للنشر والتوقيتات بناء على دراسات دورية ومراقبة جيدة لسلوك واتجاهات الجمهور عبر السوشيال ميديا مع ثراء المعلومات المقدمة، وتوفر روابط كثيرة حول الموضوع الواحد. فضلا عن إشراك الجمهور والتفاعل معهم والقدرة على تضمين ما يخدم الموضوع الرئيسي مما يعني تبادل الأدوار في عملية الاتصال التقليدية.[5]
إقرأ المزيد عن صحافة الجيل السابع
صحافة الذكاء الاصطناعي
في الوقت الذي لازالت فيه كثير من مؤسساتنا الإعلامية العربية تمشي بخطى بطيئة نحو الرقمية بين تخبط نابع من انعدام للرؤية والتخطيط ، مرورا بجيوش من الصحفينن غير المدربين على التكولوجيا الرقمية، ينشغل العالم بمستوى آخر من التكنولوجيا المتطورة النابعة من تقنيات الثورة الصناعية الرابعة التي بدأت في العالم منذ عام 2016
“صحافة الذكاء الاصطناعي” ، هذا المصطلح الجديد على أسماعنا، والذي شاء القدر أن يكون أول من يطلقه الدكتور محمد عبد الظاهر – الأكاديمي والصحفي المصري – الذي كان له السبق في استخدام المصطلح وتعريفه باللغتين العربية والإنجليزية، والذي قدم تعريفا لصحافة الذكاء الاصطناعي في كتابه “صحافة الذكاء الاصطناعي ..الثورة الصناعية الرابعة وإعادة هيكلة الإعلام” بأنها حقبة جديدة من الإعلام ، تسعى خلالها وسائل الإعلام وصناع الإعلام إلى توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي، والثورة الصناعية الرابعة على أكمل وجه في جميع مراحل صناعة الإعلام.[6]
الحديث هنا عن مستوى آخر متقدم من التناغم بين الآلة والإنسان في صناعة الإعلام. بينما يتبادر إلى أذهان الكثير من الصحفيين فكرة “الروبوت الصحفي” الذي سيحل محلهم في المستقبل القريب داخل المؤسسات الصحفية، والذي سيكتب تقاريرا أكثر تفي بغزارة الإنتاج المطلوب لتغطية الحاجات التي فرضتها التكنولوجيا الرقمية.
شاهد هذا الفيديو عن صحافة الذكاء الاصطناعي
بمعنى آخر الجميع يفكر في ذلك الروبوت الذي سيطلب منه رئيس التحرير كتابة تقارير قائلا ” إكتب لي ..شكرا” لأن ذاك الصحفي “البشري” لا يستطيع أن يعطيه سوى 10 تقارير في الأسبوع – إذا كان مجتهدا – بينما يحتاج إلى أكثر من 300 تقريرا أسبوعيا لتغطية المنصات الرقمية المختلفة للصحيفة. وليس لديه وقت لتدريب كل هؤلاء الصحفيين على الإنتاج الجديد. والحل في “الصحفي الروبوت” الذي سيقدم غزارة في الإنتاج ، وسيعمل دون كلل أو ملل أو طلب أجازات أو حتى شكوى من ضغوط العمل القاسية.
هواجس مشروعة، ولكنها بعيدة عن واقع ما نريد ونأمل عند الحديث عن صحافة الذكاء الاصطناعي بمفهومها الأعم والأشمل، والذي يحدث طفرة في صناعة الإعلام بالفعل، بعد اعتماد كثير من المؤسسات الإعلامية العالمية على تقنيات الذكاء الاصطناعي منذ سنوات، مثل وكالة أنباء أسوشيتد بريس وبلومبرج والواشنطن بوست والجارديان وصحيفة نيويورك تايمز وغيرها
وأصبحنا نشاهد قصصا صحفية مصورة بتقنيات الواقع المعزز ، والواقع الافتراضي، والدرون ، وكاميرات ثري دي، والاعتماد على الأقمار الصناعية والإنترنت الفائق السرعة ، وتقديم نشرات إخبارية كاملة عبر روبوت، وكتابة تقارير “مؤتمتة ” تحليلية في الاقتصاد والرياضة والسياحة وغيرها
لم يعد هذا دربا سنراه مستقبلا، بل هو واقع تعيشه مؤسسات إعلامية إستشرفت مستقبل الإعلام قبل سنوات، وبدأت تحول غرف الأخبار لمستوى متقدم آخر من التكنولوجيا. بينما لازلنا في مؤسساتنا الإعلامية العربية ندور في دوائرنا التي نعرفها وأدواتنا التقليدية التي لا نريد أن نعرف غيرها منذ عقود، لأن الإنسان بطبيعته يقاوم كل جديد وكل متطور خوفا من مستقبل مجهول لا يعرفه. وإذا كنت أتحدث عن سيناريوهات أربعة للرقمية في مؤسساتنا الإعلامية، فالأمر مع صحافة الذكاء الاصطناعي لم يعدو كونه خطرا مجهولا قادما نتجاهله مع سبق الإصرار والترصد، في انتظار أن يفرضه علينا أحد يوما ما بعد ثبوت عجزنا عن مجاراة من أستشرفوا المستقبل مبكرا
وللحديث بقية
[1]https://bit.ly/2Wbu6rG
[2] https://bit.ly/3AXsPDd
[3] https://mashable.com/2011/01/04/internet-surpasses-television-as-main-news-source-for-young-adults-study/
[4] https://www.facebook.com/formedia/blog/how-the-times-picayune-became-a-digital-first-newsroom-and-uses-facebook-to-break-news
[5] https://mediahelpingmedia.org/2016/02/13/newsroom-evolution-from-digital-denial-to-digital-first/
[6] محمد عبد الظاهر، صحافة الذكاء الاصطناعي الثورة الصناعية الرابعة وإعادة هيكلة الإعلام، دار بدائل للطباعة والنشر، 2019.